كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الحديث: «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي» وأطلق على يوسف عليه السلام هنا لأنه كان يخدمها، وقيل: لأن زوجها وهبه لها فهو مملوكها بزعم النسوة، وتعبيرهن عنه عليه السلام بذلك مضافًا إليه لا إلى العزيز لإبانة ما بينهما من التباين البين الناشيء عن الخادمية والمخدومية أو المالكية والمملوكية؛ وكل ذلك لتربية ما مر من المبالغة في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوج دنئ قد تعذر في مراودة الأخدان لاسيما إذا كان فيهم علو الجناب، وأما التي لها زوج وأي زوج فمراودتها لغيره لاسيما لمن لم يكن بينها وبينه كفاءة لها وتماديها في ذلك غاية الغي ونهاية الضلال: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} أي شق حبه شغاف قلبها وهو حجابه.
وقيل: هو جلدة رقيقة يقال لها: لسان القلب حتى وصل إلى فؤادها، وبهذا يحصل المبالغة في وصفها بالحب له، وقيل: الشغاف سويداء القلب، فالمبالغة حينئذ ظاهرة، وإلى هذا يرجع ما روى عن الحسن من أن الشغاف باطن القلب، وما حكى عن أبي علي من أنه وسط والفعل مفتوح الغين المعجمة عند الجمهور.
وقرأ ثابت للبناني بكسرها وهي لغة تميم، وقرأ عليه كرم الله تعالى وجهه وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر رضي الله تعالى عنهما والشعبي وعوف الأعرابي شعفها بفتح العين المهملة، وهي رواية عن قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري، وروى عن ثابت البناني أنه قرأ كذلك أيضًا إلا أنه كسر العين، وهو من شعف البعير إذ هنأه فأحرقه بالقطران، فالمعنى وصل حبه إلى قلبها فكاد يحترق، ومن هذا قول الأعشى:
يعصى الوشاة وكان الحب آونة ** مما يزين للمشعوف ما صنعا

وذكر الراغب أنه من شعفة القلب وهي رأسه عند معلق النياط، ويقال: لأعلى الجبل شعفة أيضًا، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أن الشغف الحب القاتل.
والشعف حب دون ذلك، وأخرجا عن الشعبي أن الشغف الحب، والشعف الجنون، وأخرجا أيضًا عن ابن زيد أن الشغف في الحب، والشعف في البغض، وهذا المعنى ممتنع الإرادة هنا على هذه القراءة، وفي كتاب أسرار البلاغة في فصل ترتيب الحب أن أول مراتب الحب الهوى.
ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب.
ثم الكلف وهو شدة الحب.
ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار المسمى بالحب.
ثم الشعف بالمهملة وهو احتراق القلب مهع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج.
ثم الشغف بالمعجمة وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب.
ثم الجوى وهو الهوى الباطن.
ثم التيم هو أن يستعبده الحب.
ثم التبل وهو أن يسقمه الحب.
ثم التدله وهو ذهاب العقل من الحب.
ثم اليهوم وهو أن يذهب الرجل على وجهه لغلبة الهوى عليه. اهـ.
ورتب بعضهم ذلك على طرز آخر والله تعالى أعلم، وأيًّا ما كان فالجملة إما خبر ثان أو حال من فاعل: {تُرَاوِدُ} أو من مفعوله، والمقصود منها تكرير اللوم وتأكيد العذل ببيان اختلاف أحوالها القلبية كأحوالها القالبية، وجوز أبو البقاء كونها استئنافية فهي حينئذ على ما قيل: في موضع التعليل لدوام المراودة، وليس بذاك لأنه إن اعتبر من حيث الإنية كان مصيره إلى الاستدلال بالأخفى على الأجل، وإن اعتبر من حيث اللمية كان فيه ميل إلى تمهيد العذر من قبلها وليس المقام له، وانتصاب: {حَبًّا} على التمييز وهو محول عن الفاعل إذ الأصل قد شغفها حبه كما أشير إليه، وأدغم النحويان.
وحمزة وهشام وابن محصين دال: {قَدْ} في شين شغفها.
{أَنَاْ} أي نعلمها، فالرؤية قلبية واستعمالها بمعنى العلم حقيقة كاستعمالها بمعنى الإحصاص بالبصر، وإذا أريد منها البصرية ثم تجوز بها عن العلمية كان أبلغ في إفادة كونها فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة: {لَنَرَاكَ فِي ضلال} عظيم عن طريق الرشد والصواب أو سنن العقل: {مُّبِينٌ} واضح لا يخفى كونه ضلالًا على أحد، أو مظهر لأمرها بين الناس، فالتنوين للتفخيم والجملة مقررة لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع، وتسجيل عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم، وإنما لم يقلن: إنها لفي ضلال مبين إشعارًا كما قيل: بأن ذلك الحكم غير صادر منهن مجازفة بل عن علم ورأى مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، وصح اللوم على الشغف قيل: لأنه اختياري باعتبار مباديه كما يشير إليه قوله:
مازحته فعشقته ** والعشق أوله مزاح

وإلا فما ليس باختياري لا ينبغي اللوم عليه كما أشار إليه البوصيري بقوله:
يا لائمي في الهوى العذري معذرة ** مني إليك ولو أنصفت لم تلم

وقيل: اللوم عليه باعتبار الاسترسال معه وترك علاجه فإنهم صرحوا بأن ذلك من جملة الإدواء، وذكروا له من المعالجة ما ذكروا، ومن أحسن ما ذكر له من ذلك تذكر مساوي المحبوب والتفكر في عواقبه فقد قيل:
لو فكر العاشق في منتهى ** حسن الذي يسبيه لم يسبه

وتمام الكلام في هذ المقام يطلب في محله.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي باغتيابهن وسوء مقالتهن، وتسمية ذلك مكرًا لشبهه له في الإخفاء، وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه وأطلعن أمرها، وقيل: إنهن قصدن بتلك المقالة إغضابها حتى تعرض عليهن يوسف لتبدي عذرها فيفزن بمشاهدته، والمكر على هذين القولين حقيقة: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن، قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس أو الأربع المذكورات، وروى ذلك عن وهب، والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها: {وَأَعْتَدَتْ} أي هيأت: {لَهُنَّ مُتَّكَئًا} أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد كما روى عن ابن عباس، وهو من الاتكاء الميل إلى أحد الشقين، وأصله موتكأ لأنه من توكأت فأبدلت الواو تاءًا وأدغمت في مثلها، وروى عن الحبر أيضًا أن المتكأ مجلس الطعام لأنهم كانوا يتكؤن له كعادة المترفين المكبرين، ولذلك نهى عنه، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله وأن يأكل متكئًا، وقيل: أريد به نفس الطعام قال العتبي: يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا؛ ومن ذلك قول جميل:
فظللنا بنعمة واتكأنا ** وشربنا الحلال من قلله

وهو على هذا اسم مفعول أي متكئًا له أو مصدر أي اتكاء، وعبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف عن ذلك مجازًا، وقيل: هو من باب الكناية، وعن مجاهد أنه الطعام يحز حزًا بالسكين واختلفوا في تعيينه، فقيل: كان لحمًا وكانوا لا ينهشون اللحم وإنما يأكلونه حزًا بالسكاكين، وقيل: كان أترجا وموزًا وبطيخًا، وقيل: الزماورد وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره أو شيء شبيه بالأترج، وكأنه إنما سمي ما يقطع بالسكين بذلك لأن عادة من يقطع شيئًا أن يعتمد عليه فيكون متكأ عليه، وقرأ الزهري وأبو جعفر وشيبة {متكى} مشدد التاء من غير همز بوزن متقى وهو حينئذ إما أن يكون من الاتكاء وفيه تخفيف الهمزة كما قالوا في توضأت: توضيت، أو يكون مفتعلًا من أوكيت السقاء إذا شددته بالوكاء، والمعنى أعتدت لهن ما يشتد عليه بالاتكاء أو بالقطع بالسكين، وقرأ الأعرج {متكأ} على وزن مفعلًا من تكاء يتكأ إذا اتكأ، وقرأ الحسن وابن هرمز {متكأ} بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف وهو كثير في كلامهم، ومنه قوله:
وأنت من الغوائل حين ترمى ** وعن ذم الرجال بمنتزاح

وقوله:
ينباع من ذفرى عضوب حسرة ** زيافة مثل الفنيق المكرم

وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة وآخرون {متكا} بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء ذلك عن ابن هرمز أيضًا، وهو الأترج عند الأصمعي وجماعة والواحد متكة، وأنشد:
فأهدت (متكة) لبني أبيها ** تخب بها العثمثمة الوقاح

وقيل: هو اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين كالأترج وغيره من الفواكه، وأنشد:
نشرب الاثم بالصواع جهارا ** ونرى (المتك) بيننا مستعارًا

وهو من متك الشيء بمعنى بتكه أي قطعه، وعن الخليل تفسير المتك مضموم الميم بالعسل، وعن أبي عمرو تفسيره بالشراب الخالص، وحكى الكسائي تثليث ميمه، وفسره بالفالوذج، وكذا حكى التثليث المفضل لكن فسره بالزماورد، وذكر أنه بالضم المائدة أو الخمر في لغة كندة، وبالفتح قرأ عبد الله ومعاذ رضي الله تعالى عنهما، وفي الآية على سائر القراآت حذف أي فجئن وجلسن: {وَءاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنَّ سِكّينًا}.
وقال بعض المحققين: لا يبعد أن تسم هذه الواو فصيحة، وإنما أعطت كل وحدة ذلك لتستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن، وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن لتبكتهنّ بالحجة.
وقيل: غرضها ذاك والتهويل على يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن الخناجر توهمه أنهن يثبت عليه فيكون خائفًا من مكرها دائمًا فلعله يجيبها إلى مرادها، والسكين مذكر عند السجستاني قال: وسألت أبا زيد الأنصاري. والأصمعي. وغيرهم ممن أدركناه فكلهم يذكره وينكر التأنيث فيه، وعن الفراء أنه يذكر ويؤنث. وذلك حكى عن اللحياني. ويعقوب، ومنع بعضهم أن يقال: سكينة، وأنشد عن الكسائي ما يخالف ذلك وهو قوله:
الذئب سكينته في شدقه ** ثم قرابًا نصلها في حلقه

{وَقَالَتِ} ليوسف عليه السلام وهن مشغولات بمعالجة السكاكين وإعمالها فيما بأيدهن، والعطف بالواو ربما يشير إلى أن قوله: {اخرج عَلَيْهِنَّ} أي ابرز لهن لم يكن عقيب ترتيب أمورهنّ ليتم غرضها بهن.
والظاهر أنها لم تأمره بالخروج إلا لمجرد أن يرينه فيحصل مرامها، وقيل: أمرته بالخروج عليهن للخدمة أو للسلام، وقد أضمرت مع ذلك ما أضمرت يحكى أنها ألبسته ثيابًا بيضًا في ذلك اليوم لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ} عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه، وإنما حذف على ما قيل: تحقيقًا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن، وفيه إيذان بسرعة امتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من الأفاعيل.
ونظير هذا آت كما مر آنفًا: {أَكْبَرْنَهُ} أي أعظمنه ودهشن برؤية جماله الفائق الرائع الرائق، فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة اليدر على سائر الكواكب.
وأخرج ابن جرير وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر، وحكى أنه عليه السلام كان إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس، وجاء عن الحسن أنه أعطى ثلث الحسن، وفي رواية عن أنس مرفوعًا أنه عليه السلام أعطى هو وأمه شطر الحسن وتقدم خبر أنه عليه اللاسم كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى أكبرن حضن، ومن ذلك قوله:
يأتي النساء على أطهارهن ولا ** يأتي النساء إذا أكبرن إكبارًا

وكأنه إنما سمي الحيض إكبارًا لكون البلوغ يعرف به فكأنه يدخل الصغار سن الكبر فيكون في الأصل كناية أو مجازًا، والهاء على هذا إما ضمير المصدر فكأنه قيل: أكبرن إكبارًا.
وإما ضمير يوسف عليه السلام على أسقاط الجار أي حضن لأجله من شدّة شبقهن، والمرأة كما زعم الواحدي إذا اشتدّ شبقها حاضت ومن هنا أخذ المتنبي قوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ** إذا لحت حاضت في الخدور العواتق

وقيل: إن الهاء للسكت، ورد بأنها لا تحرك ولا تثبت في الولص، وءجراء الوصل مجرى الوقف وتحريكها تشبيهًا لها بالضمير كما في قوله:
واحر قلباه ممن قلبه شبم ** ضعيف في العربية

على تسليم صحته ضعيف في العربية واعترض في الكشف التخريجين الأولين فقال: إن نزع الخافض ضعيف لأنه إنما يجري في الظروف والصفات والصلات، وذلك لدلالة الفعل على مكان الحذف، وأما في مثل هذا فلا، والمصدر ليس من مجازه إذ ليس المقام للتأكيد، وزعم أن الوجه هو الأخير، وكل ما ذكره في حيز المنع كما لا يخفى.
وأنكر أبو عبيدة مجيء أكبرن بمعنى حضن، وقال: لا نعرف ذلك في اللغة، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر، ونقل مثل ذلك عن الطبري وابن عطية وغير واحد من المحققين، ورواية ذلك عن ابن عباس إنما أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد، وهو وإن روى ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس لا يعول عليه فقد قالوا: إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم.
وعن الكميت الشاعر تفسير أكبرن بأمنين، ولعل الكلام في ذلك كالكلام فيما تقدم تخريجًا وقبولًا، وأنا لا أرى الكميت من خيل هذا الميدان وفرسان ذلك الشأن: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي جرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الاختيار حتى لم يعلمن بما عملن ولم يشعرن بما ألم ما نالهن، وهذا كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، وهو معنى حقيقي للتقطيع عند بعض.
وفي الكشف إنه معنى مجازي على الأصح، والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات. وإما بالنسبة لكثرة القطع في يد كل واحدة منهن. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه فسر التقطيع بالإبانة، والمعنى الأول أسرع تبادرًا إلى الذهن، وحمل الأيدي على الجوارح المعلومة مما لا يكاد يفهم خلافه، ومن العجيب ما روى عن عكرمة من أن المراد بها الأكمام، وأظن أن منشأ هذا محض استبعاد وقوع التقطيع على الأيدي بالمعنى المتبادر؛ ولعمري لو عرض ما قاله على أدنى الأفهام لاستبعدته: {وَقُلْنَ} تنزيهًا لله سبحانه عن صفات التقصير والعجز وتعجبًا من قدرته جل وعلا على مثل ذلك النصع البديع: {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أصله حاشا الله بالألف كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفًا، وهو على ما قيل: حرف وضع للاستثناء والتنزيه معًا ثم نقل وجعل اسمًا بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه، وكثيرًا ما يراعون ذلك ألا تراهم قالوا: جلست من عن يمينه؟ فجعلوا عن اسمًا ولم يعربوه، وقالوا: غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاه كل ذلك مراعاة للأصل، واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف، ورد في البحر دعوى إفادته التنزيه في الاستثناء بأن ذلك غير معروف عند النحاة، ولا فرق بين قام القوم إلا زيدًا.
وحاشا زيدًا، وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم، واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون اسمًا إلا إذا نقل وسمى به وجعل علمًا، وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب، ولذا جعله ابن الحاجب اسم فعل بمعنى برئ الله تعالى من السوء، ولعل دخول اللام كدخولها في: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36] وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل: إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن الزجاج، نعم ذهب المبرد وأبو علي وابن عطية وجماعة إلى أنه فعل ماض بمعنى جانب، وأصله من حاشية الشيء وحيه أي جانبه وناحيته، وفيه ضمير يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به لله تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته، والمراد تنزيهه وبعده كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رؤى فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى أنه على هذا يفوت معنى التعجب، واستدل على اسميتها بقراءة أبي السمال: {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} بالتنوين، وهو في ذلك على حد: سقيًا لك، وجوز أن يكون اسم فعل والتنوين كما في صه، وكذا بقراءة أبيّ وعبد الله رضي الله تعالى عنهما حاشا الله بالإضافة كسبحان الله، وزعم الفارسي أن: {حاشا} في ذلك حرف جر مرادًا به الاستثناء كما في قوله:
(حاشا) أبي ثوبان إن أبا ** ثوبان ليس ببكمة فدم

ورد بأنه لم يتقدمه هنا ما يستثنى منه، وجاء في رواية عن الحسن أنه قرأ {حاش لله} بسكون الشين وصلًا ووقفًا مع لام الجر في الاسم الجليل على أن الفتحة اتبعت الألف في الاسقاط لأنها كالعرض اللاحق لها، وضعفت هذه القراءة بأن فيها التقاء الساكنين على غير حده، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ {حاش الإله} وقرأ الأعمش {حاشا لله} بحذف الألف الأولى، هذا واستدل المبرد وابن جني والكوفيون على حاش قد تكون فعلًا بالتصرف فيها بالحذف كما عملت في هذه القراآت، وبأنه قد جاء المضارع منها كما في قول النابغة:
ولا أرى فاعلًا في الناس يشبهه ** ولا أحاشى من الأقوام من أحد